8 - الايمان والمنطق العقلاني
عظمة المسيحية في عمق محبتها " هكذا أحبَّ الله العالم , حتى بذل ابنه الوجيد" وهي التي تتجلّى بالعطاء والتضحية والفداء .
والمحبة هي رمز القبول والرضى وبالتالي هي الايمان الذي يبلغ حدود اليقين التام المبني على المحبة .
وعظمة المحبة المسيحية في تسامح محبتها اللامحدود , واللاَ حدود له : أحبوا مبغضيكم , باركوا لاعنيكم , صلّوا من أجل اللذين يسيئون اليكم ... غير أنَّ هذا التسامح لم يعنِ ِ , ولا يعني أبداً سوى التواضع , وليس الذلّ والخنوع . لأنَّ في المحبة المتسامحة سمواً وتحرراً من عبودية الأنانية والذاتية . وبالتالي بامكاننا القول أنَّ في التحرر ايماناً وثقةً وفيهما معاً , أي بالايمان وبالثقة يقين وقبول .
وعظمة المسيحية ليست في مبادرة ومحاولة تأله الانسان وعودته للذات الالهية التي كان فيها وبها قبل المعصية , با نقول , في تأنس الاله , حيث في تأنس ابن الله واتخاذه لطبيعة البشر محبة , لا محبة مثلها في تاريخ البشرية منذ خلق خليقتها وحتى ساعة دينونتها . وفي محبة الله الخالق هذه نتبين في عقلانية وجداننا طبيعة الفداء , وفي الافتداء نتبين جوهر الخلاص والتحرر من العبودية , شرط أن نقبل به ونرضاه بملىء ارادتنا وبكامل يقين اختيارنا .
عن هذا الايمان اذاً وعن اليقين والقبول الوجداني الحر , بمنطقه العقلاني سنتحاور في هذه العشية .
وفي بدء البداية , اسمحوا لي هذا التجاوز اللغوي البسيط في منطقه ولكنه بعيد الآفاق في تلاحمه وانسانية لاهوتيته . "في البدء كان الكلمة ". وعن هذه الكلمة ( اللوغوس ) التي نؤمن بها ونسجد لها سأتحدث اليكم الآن , في لقاء محبة واطلاّع وتعارف . لا سيما أن كلمة ( لوغوس ) كما تعني في اصلها اليوناني ليس الكلمة واللغة فقط بل السبب والحجة والعلَّة . او ما نحاول قوله والنطق به , لنعبر عنه بوضوح حقيقة ما تُؤمن وتقرُّ معترفةً به كل خليقة ناطقة تتحلى بالمنطق العقلاني وليس بالغريب اذاً لأن تتحول هذه الكلمة اليونانية ( لوغوس ) الى كلمة عربية , يونانية الجذر وهي ( لغة ) والى باللغات التي اشتقت من اللاتينية ابنة اليونانية. LOGICK - ΛΟΓΙΚΗ ان الحديث اليوم عن الايمان ضمن اطار الدين والمعتقد اللاهوتي لا يتعارض مع مفهوم المنطق البسيط والحر الذي يعتمد على وجدانية العقل الانساني الذي زوَّد الله به الانسان, ليميزه عن بقية مخلوقاته الحية.
والسؤال المطروح منّا الآن هو : هل يتعارض الايمان مع المنطق العقلاني ؟ الا أنه من الضروري قبل طرحنا لهذا السؤال لأن نتبين بالتعريف البسيط عمّا نعني به " الايمان " من جهة و " المنطق العقلاني " من جهة أخرى .
الايمان بمفهوم تعريفه اللاهوتي والفلسفي هو الاقتناع التام بصحة وحقيقة ما نؤمن به ونرضاه بالحق ونتقبله كونه الحقيقة بأم عينها .
وتعني هذه القناعة التي ترتكز معتمدة على الاقتناع الذاتي الحر الذي ينص على أننا بملىء وكامل ارادتنا الحرة نحب من قد آمنا به وبالتالي أننا نتقبله ونقبل به , وليس هناك بالتالي أي شك حول جوهر حقيقته . وعليه فالايمان هو انصياع حر وخضوع حر وتام لكلام الله , بانارة الروح القدس. وهذا الايمان بالتالي يفوق أي معرفة فلسفية بحتة. ويظهر كونه حقيقة مطلقة غير مرتبطة بوجهات نظر او اهواء . فهم بالتالي يهم كل الناس المؤمنين لأنه يمثل وجهة نظر الله , الأساس الثابت لكل حقيقة.
وهذا الايمان ليس مجرد معرفة نظرية محطة بل هو معرفة للحقيقة الخلاصية , وبالتالي هو عنصر ضروري بالنسبة للجميع حتة يتمكنوا تحقيق كمال كيانهم الانساني . الا ان الانسان لا يمكنه القيام بذلك من ذات نفسه وقواه , بل بعون من الله العلي , ويأتيه على شكل استنارة ووحي الهي وتقدمة فداء , والتي يتجاوب معها الانسان ويستجيب لها الانسان الحر بواسطة الايمان المطلق والمحبة الكاملة والشاملة . وهذا الايمان بالتالي الذي يمثل استحاقاً قيِّماً مطلقاً وضرورة ملحة للجميع هو بالأساس هبة من الله الخالق , تصل الينا عن طريق خدمة هيكل الله القدوس ورعاة كنيسته . والايمان هذا عنصر جوهري بالنسبة لحياتنا وفي حياتنا الاخرى الفائقة الطبيعة بالمسيح يسوع . وبناء عليه , فالايمان مغلق في وجه وازاء اّلذين خارج هذه البيعة والميراث السماوي . ورغم كونه يسمو على عقل البشر فهو يخاطب فينا العقل الذي لللأنسان المؤمن , لأنه العنصر الأكثر تجرداً عن الأوضاع والبيئة ويتيح الحوار مع سائر الافراد من كل مكان وزمان , لأن في عقل الانسان المؤمن انفتاح على معطيات الايمان والعلاقة بين البشر.
والايمان رغم معارضته بعض الشيء للعقل المنغلق , فهذه الظاهرة فيه هي التي تسمح لنا بمخاطبة من هم خارج بيعة الكنيسة , وأن نعرض عليهم مفهوم الايمان في بعده العقلاني وأن نوجه اولئل الذين لا ينعمون بموهبة الايمان كاملة للانفتاح على دعوة الله وتقبل كلامه الخلاصي .
وهذا الانفتاح منوط بعوامل كثيرة تؤهل النفس للانصياع لعمل الله فيها وللتجاوب المتفاعل مع تأثير النعمة الالهية عليها. وأحد هذه العوامل بنوع خاص هو البعد العقلاني للايمان , اذ أنَّه يحقق متطلبات الوضوح التي يبتغيها العقل ويعطي الجواب لمشاكل الانسان كلها ويقود بالنتيجة الى تحقيق ما يصبو اليه الانسان المؤمن ويقوده الى ىما هو أبعد من كل امكاناته وتطلعاته . وبالتالي نتوصل للقول بكل قناعة : أنه من المناسب للانسان العاقل لأن يُؤمنَ .
والايمان ليس مجرد اختبار أعمى . ولا يستطيع المدافِع عن الايمان أن يرغمَ مستمعيه على الايمان . انما دوره هو جليٌَُّ الواقع وازالةَ العوائق ِ التي تحول دون النظرة المجردة للأمور , ومساعدة الانسان على اتخاذ الموقف الذي تتجلى فيه الحقيقة . وهناك الكثير من الأمور التي لا يراها الانسان الا اذا صوَّب نظره اليها من الزاوية الملائمة . وهكذا ايضاً في الشؤون العقلانية والايمانية . والمدافع عن الايمان هو الدليل والمرشد الموجه الذي يساعد رفيقه على توجيه انظاره الى حيث تنجلي الحقيقة , ولكنه لا يمكنه لأن يرغمه للنظر والتطلع الى ذلك كرهاً واجباراً .
وربما يأخذ البعض عليَّ ثقتي الكبيرة , لا بل المفرطة بقيمة العقل , ولكني أُجيب على هذا المأخذ بأنَّ العقل هو نقطة التماس المشتركة بين المؤمن وغير المؤمن . ولا نستطيع أن ننطلق من غير هذا المنطلق في حوارنا مع الذين هم خارج الكنيسة وجماعة المؤمنين بالسيد يسوع المسيح ابن الله الحيّ .
رغم ذلك فاننا نعي تمام الوعي , أنَّ الايمان انما هو في نهاية الأمر , قضيةُ نعمة ممنوحة من الله , وان كان تحكيم العقل ضرورياً لمعرفة ما اذا كان الايمان في محله . الايمان هو اليقين بما قد غاب من المعرفة , كما تحيط بالايمان المعرفة . ولا يكتسب الايمان الا بالمحبة . وقد قيل : انما الايمان هو سماع ُ الأُذن ِ .
والناس جميعاً تجاه الايمان بما جاء من عند الله على ثلاث فئات ٍ : منهم من يرفض الايمان مطلقاً ويبطله تماماً , متكابً ومتعظماً عن ان يكون عقله تبعاً لخبر لم تحط به معرفته . ومنهم من بذل كل جهده تاركاً عقله طليقاً لقبول أي خبر يأتيه من لدن الله , دون أن تحيط به معرفته العقلانية , في الوقت الذي يهمل ايمانه ولا يوكلُ به عقلَه وأن يحتاط له نظراً, حتى يجعله في مكانه . ومنهم من يُخضِع ذهنَهُ للتصديق بخبر يُسنَدُ الى الله دون أن يستَنِدَ الى الله . والناس بالتالي وفقاً لموقفهم من الايمان بالله هم ثلاث فئات كما سبق وذكرنا : منهم من يرفض الايمان بما لا يحيط بمعرفته شخصياً . ومنهم من يؤمن بما يُقالُ له أنه وارد من الله القدوس , دون أن يمعن النظر ويتحقق ان كان حقيقة آت ٍ من الله . ومنهم من يؤمن حقاً بعد أن أمعن في بصيرة عقله وقلبه ووجدانه وأدرك صحة نسبة ما كان قد سمعه وآمن به هو آتٍ من الله باري الكون وخالق كل البرايا بأسرها .
وعلى الانسان المؤمن بالتالي أن يتفحص ويتحقق ان كانت الحقيقة المعروضة عليه هي جديرة بالتصديق . بيد أن أسرار الديانة والايمان المسيحي لا تدرك بالعقل رغم أنَّ البراهين المنطق العقلاني هي موضوعة ومطروحة لدعم ايمان ومعتقات الضعفاء وصد هجمات الأعداء من جهة ولاثبات عدم التناقض فيما بينهما . بينما جوهر الايمان الفعلي والحقيقي فهو من عمل الروح القدس الذي ينير العقول والبصيرة والوجدان في الانسان دون تمييز وتحيز واستثناء بين المؤمن العقلاني وغير المؤمن اياً كانت حوافزه ويقينه وقناعته الذاتية .
ولنعد مرة أخرى الى المنطق الذي يعتمد على المعرفة العقلانية الوجدانية. ومن المعروف والمقر به أن الانسان ينعم بوسيلتين متميزتين للمعرفة , وهما : الحواس الخارجية والعقل الباطن . والعقل , اذ ينطلق من معطيات الحواس الجزئية والوضعية , فهو يتعدى نطاقها بعمليتين : - في الاولى منهما نتبين أن العقل يبلغ درجة اصدار احكامه الشاملة حول الأنواع المادية وغير المادية منها , والى معرفة طبيعتها ومجمل كينونة وجودها . ويبدو دور العقل , وكأنه تعميم لمعطيات الحواس الأولية , والتي هي حتماً جزئية وفردية . والعقل ينتقل من الجزء الى الكل , ومن الفرد الى النوع , ومن الانواع المتشابهة الى الجنس ومن مختلف الاجناس بالنهاية الى مجمل الوجود .
غير أنَّ كل هذا لا يمس مصدر الايمان بالله وبالشعور القدسي بأي ضرر . فالبراهين ليست هي السبب الرئيسي دائماً للايمان , لأن البرهان بحد ذاته ليس سوى حلقة من الجهد الازلي الذي يبذله العقل البشري لتضييق أبعاد السر في سبيل المعقول. ويطمح العقل البشري الى تفهم الوجود بأكمله , وهو انفتاح على اللامحدود .
الا أنَّ هذا العقل والبصيرة الروحية النقية والصافية التي كان آدم الأول يتحلى بها فقد جاءت المعصية لتفقدها كل رونقها وكل وكل ما كانت تسطع به من نور وبهاء . وفقد بالتالي انسان بعد المعصية ذاك العقل وسقط في وضع لم يعد يستطيع بعدها التخلص منه بنفسه وقواه الذاتية . وجاء الله الخالق الى نجدته من فيض محبته وبفداء ابنه المسيح يسوع ( هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ) .
وهكذا , فان العقل الذي يجعل الانسان يتحدث عما يخص الله ويتعلق به , وعن الخير والشر وعن الثواب والعقاب ليس هو بالعقل الطبيعي البيولوجي الصرف , بل هو العقل المستنير بنور وهداية الايمان المسيحي المستقيم الرأي والصواب . والانسان بالمعصية لم يفقد العقل بالتمام , لأن الخطيئة كونها أدت الى اضعاف قوى الانسان الروحية , حدَّت بالتالي من حرية العقل وفاعليته , وهكذا أصبح الانسان بحاجة ماسة الى معونة الله وتدبيره . والوحي بالتالي والاستنارة العلوية هي تلك التي توجه الانسان لتحكيم العقل واللجوء اليه , ليوقظه من سباته ويتيح له المجال لأن يكتشف في تعاليم الايمان أعمق متطلباته , خاصة ما كان منها خافياً عليه. وعلى هذا الاساس والمقياس يستطيع العقل أن يميز بين مختلف الديانات, وما هي بالواقع الديانة الحقيقية التي أوحى الله بها . وبهذا المعنى يمكن القول أن العقل حكمٌ , دون أن ننفي ضعف الانسان العاقل وحاجته الى الايمان الحق والحقيقي .
ونقول من وجهة النظر اللاهوت المسيحي بأن العقل لا يستطيع , نتيجة سقطة المعصية لأن يكتشف من تلقاء ذاته ما يقوله الوحي الالهي المتعلق بمصير الانسان , لكنه حين يُعرضُ الكشف الالهي ويستنير العقل بستنارة الهدى يتحرر عقل المؤمن من غشاوته بالنعمة المقدسة ويجد ىفيما بعد في طيات الفكر العقلاني انسجاماً غير مرتقب مع ابعد وأعمق متطلباته ورغباته .
في المسيحية عامة واللاهوت الارثوذكسي خاصة يظهر هذا الانسجام العميق مع الطبيعة والعقل مما لا مثيل له في سائر الاديان . فلا سقفية في المسيحية للانارة والوحي الالهي , ولا حدود لانسجام التفكير الحر مع الايمان المسيحي الارثوذكسي المستقيم الرأي العميق والمتحرر من عبودية الحرفية المنزلة وحرفية الناموس , ولا سيما أن المسيحية قد أثبتت أنها هي الديانة التي أوحى بها الله وكشفها بشكل مباشر , وبها تم الفداء بالمسيح يسوع , وحلَّ الخلاص بتقبل الانسان له , بملىء حريته وارادته , ليستعيد بذلك واستنارة الفكر النيِّر والخيِّ والصالح . الا أنَّ هذه الرؤية لن تكون واضحة الاّ لمن يعيشون هذا الايمان من الداخل.
أما , ان أردنا حَمْلَ الذين هم خارج هذا الايمان المسيحي المستقيم الرأي للشعور به وبشكل واضح , فلا بدَّ لهم من نعمة خاصة من الله, ومن شهادة المؤمنين الحقيقيين الذين يَحْيَونَ في المحبة , ولا يستطيع أي برهان أن يُغنيهم أو ينهيهم عن ذلك .
ونصل بالنتيجةالى طرح السؤال ثانيةً وبشكل أكثر دقة وتحديد وهو : كيف بنا البلوغ الى معرفة الحقيقة ؟ هناك طريقتان للبلوغ الى معرفة الحقيقة : 1 - الايمان بالاقرار والاعتراف والشهادة كما هي مدونة في مصدر الايمان والتعليم المسيحي المستقيم الرأي وهي الكتاب المقدس , بعهديه القديم والجديد , والتقليد المسيحي الارثوذكسي الشريف .
2 - التفكير العقلاني والوجداني , انطلاقاً من معطيات الحواس ومن طبيعة الانسان العاقل. وهاتان الطريقتان لا تتوازيان ولا تتوازنان تماماً , فهناك حقائق لا يعرفها الانسان المفكر العاقل الا بالوحي . ويحاول العقل هنا يحاول اللحاق بالايمان , مستنداً الى هداية أنواره الخاصة . ويسير المفكر العاقل المسيحي في طريق يستطيع غير المؤمن مبدئياً أن يتبعه فيه . الا أن اتجاه السير تتحكم فيه , في نهاية الأمر , النظرة الايمانية , لا سيما أن ما يمكننا معرفته بعقولنا ليس سوى ما يعادل بصيص ضوء يتسرب بيتاً مظلماً , أو في ثقبٍ كثقب الابرة اذا ما قورن بضوء الشمس كله .
وخلاصة القول هو أن الوحي هو المنطلق الأول . كما أن الايمان هو الاختيار الأصيل الذي نسلط عليه تفكير العقل لندرك ما يكمن فيه من معقول . وهو الذي ينير حياتنا في هذه الدنيا للبلوغ الى الله . ورغم كل ذلك يبقى شيء من المعرفة الناقصة , لأننا في شهادة ايماننا وفي اطار معرفتنا ومنطقنا الوجداني البشري نستخدم مفاهيماً بشرية غير كاملة بسبب المعصية , الى أن نصل بالنتيجة الى الرؤية السماوية , لأنه كما يقول بولس الرسول في رسالته الى أهل كورنثوس " نحن اليوم نرى كما في مرآة , رؤية مكتسبة . وأما يومذاك فستكون رؤيتنا وجهاً لوجه. اليومَ أعرف معرفة ناقصة , وأما يومذاك فسأعرف مثلما أنا معروف.
عمان في 26/ آذار / 1994
كاهن الرعية
9 – كاسياني
المتوحدة والشاعرة البزنطية 36
تحتوي الكنيسة الارثوذكسية المقدسة في كتبها الطقسية على تسابيح وأشعار دينية غنية بتعابير الايمان بمعانيه السامية التي تحاكي قلب كل مؤمن وتنقله الى ما فوق الدنيويات لتوصله الى الرب الاله في عرشه السماوي .
وكانت هذه التراتيل والطروباريات قد كُتبت بلغة شعرية لها أوزانها وقوافيها . والشعر بحد ذاته هو لغة القلوب وهمسة الأرواح. يحاكي القلوب فيهذبها ويناجي الأرواح فيصقلها , لذا استخدِم الشعرُ في التراتيل الكنسية لتمجيد الرب الاله الخالق وتسبيحه " بالتسابيح أنشدت باسمك سيدي " وكما جاء أيضاً " نفسي لربك بالتراتيل اصعدي" . ومن عظام الشعر الكنسي في كنيستنا الارثوذكسية هم : يوحنا الدمشقي و رومانوس المرنم و كاسياني المتوحدة وغيرهم .
تحتل كاسياني المتوحدة والشاعرة البزنطية مكانة مرموقة في مصاف الشعراء الكنسيين بالكنيسة الاورثوذكسية . وما يزال يتردد اسمها الى الآن على كل لسان مطلع على مادة الامنولوجيا اللاهوتية , كشاعرة كتبت الكثير من التراتيل الدينية الطقسية التي حركت الشعور الديني وما تزال في قلوب المسيحيين الارثوذكس المستقيمي الرأي .
ورغم ذلك, فقد حيكت أساطير ودونت قصص كثيرة حول شخصية تلك المتوحدة البزنطينية ذات الموهبة الشعرية التي ما نبضت أبداً, بل على العكس , قد زادت التجارب العديدة التي واجهتها خصب شاعريتها وخصتها في مكانة الصدارة بين أوائل الشعراء الكنسيين البزنطيين .
ومن أسباب ودوافع كتابة الأساطير والقصص حول سيرة حياة شاعرتنا كاسياني هو أنَّ الذين كتبوا عنها لم يكونوا من معاصريها , بل من أتى من بعدها, لذا ما نعرفه عنها , على حسب قول البحاثة البزنطي ( كرومفاخير ) هو من نسج الوقائع الاسطورية .
ونعلم من هذه الأساطير والقصص أنَّ اسمها الحقيقي كان " كاسياني " أو " كاسيا " أو " اكاسيا " وأنها كانت ابنة لعائلة غنية ارسطوقراطية تتحلى بالأخلاق والكرم والفلسفة والشغف بقراءة الكتب الدينية المقدسة .
وكانت كاسياني قد شيدت ديراً و اثر حادثة جرت لها مع الامبراطور البزنطي ثاوفيلوس , عاشت فيه متعبدة لله ومتوحدة حيث اهتمت منشغلة بنظم التسابيح والأشعار الكنسية التي ما نزال ننشدها ونقوم بترتيلها الى يومنا الحاضر في طقوسنا الدينية الطقسية والاحتفالية , بكل ورع وخشوع , لما تتضمنه من عمق المعاني الذ يختلج له فؤاد كل مؤمن .
ان ما ذكرناه عن سيرة حياة كاسياني هو القليل مما كتب ونشر عنها . ولم يتمكن كل من اهتم بشخصية هذه الشاعرة المتوحدة الوصول لاستنباط معلومات وثيقة وأكيدة عنها. لكن الامر الوحيد الذي بامكاننا القول عنه هنا هو أنَّ كاسياني كانت تنحدر من عائلة غنية كانت تعيش في القسطنطينية , عاصمة الامبراطورية وتتحلى بكرم الأخلاق والفلسفة والشغف بكل مي يتعلق بالايمان الديني المسيحي المستقيم الرأي. ويعتقد كثير من المؤرخين أن زمن ولادتها كان على أيام الامبراطورة " ايريني الآثينية" زوجة لاون الرابع امبراطور بزنطية الذي توفي في أواخر عام ( 780 ) م .
وتلقت كاسياني علومها في مدارس القسطنطينية التي كانتبلغ ذروة الد آنذاك. وكان شغفها العميق ورغبتها الملحة في التحصيل والتمحيص العلمي السبب الاساسي في دراستها للأدب اليوناني القديم وآباء الكنيسة وكتابها العظام , الذين اكتسبت منهم واقتبست عنهم الكثير لارواء نفسها العطشى لحياة مسيحية حقة تعيش فيها للمسيح وبالمسيح فقط. وقد أحبت كاسياني كثيراً الشعراء والمرنمين الكنسيين أحبت وأُعجبت في الوقت نفسه قدامى شعراء اليونان الكلاسيكيين الذين تعمقت في دراستهم . ويظهر هذا الأمر جلياً في بعض الأفكار والتعابير والصور التشبيهية والأوزان التي استخدمتها في نظمها للتراتيل والاشعار الكنسية .
عاشت كاسياني في زمن كانت فيه الدولة البزنطية منقسمة على نفسها كنسياً الى فئتين متنازعتين . الفئة الأولى تطالب بعدم السجود للأيقونات , بينما الأخرى تقول بواجب سجود الاكرام لها . نزاع أرهق كنيسة السيد المسيح فترة مائة عام كاملة , وجلب الكثير من المتاعب على الدولة البزنطية , الى حين أن سُجِلَ النصر الكبير وارتفع شأن الكنيسة باقرار العقيدة الأرثوذكسية الداعية الى واجب سجود تكريم لا سجود عبادة للأيقونات المقدسة , وذلك وفقاً لقرار المجمع المسكوني السابع الذي انعقد بدعوة من الامبراطور لاون الرابع وزوجته ايريني الآثينية حيث على أثره ساد الهدوء وعمَّ السلام في العالم ألارثوذكسي .
بعد وفاة الامبراطور لاون الرابع اعتلت عرش بزنطية زوجته ايريني الآثينية الثي أمرت بقلع عيني ابنها البالغ العاشرة من عمره , لاستبعاده عن وراثة العرش الذي استولته بدلاً عنه . والجدير بالذكر أنَّ أباطرة كثيرين كانوا ثقد خلفوها وهم ( نيكيفوروس ومخائيل الكوروبالاتيس ولاون الخامس ومخائيل ترافلوس وثيوفيلوس ) وكلهم من مؤيدي عدم السجود للأيقونات المقدسة, مما حذى بهم ذلك الى اضطهاد المؤمنين الساجدين لها. وقد لعب الاخير وهو ثيوفيلوس دوراً هاماً في تاريخ بزنطية وبقي اسمه مرتبطاً باسم كاسياني وسيرة حياتها , كما يرد ذلك في كتابات مؤرخين ذاك الحين.
وكان ثيوفيلوس قد اعتلى عرش بزنطيو وأبوه على قيد الحياة ( 821 – 829 . م ) وكان واحداً من أقوياء وعظماء من حكموها . ويقال أنه أصدر في احدى رحلاته أمراً ينص على أن يمتثل أمامه كل مواطن ويشتكي له , ان كان أحد قد اعتدى على حقه . وكان يعاقب المعتدي دون محاباة ومراعاة لمكانته وثروته واعتباراته الاجتماعية .
ولقد كان ثيوفيلوس امبراطوراً ورعاً وتقياً رغم معاداته لسجود التكريم للأيقونات كما ذكر عنه المؤرخ ( مخائيل غليكاس ) . وكان يأتي في كل عيد وموسم ديني اللى الكنيسة ويرتل الطروباريات والتراتيل الكنسية المختلفة . كما يرد اسم الامبراطور ثيوفيلوس نفسه كشاعر كنسي نظم تراتيل وتسابيح دينية عديدة. ويذكر البحاثة البزنطي (جيورجيوس كوذينوس) أنَّ الطروبارية التي ترتل في أحد الشعانين " اخرجوا أيها الشعوب , اخرجوا يا أمم , وانظروا اليوم ملك السموات جالساً على جحش حقير, كأنه على عرش سام ٍ , قادماً الى أورشليم . فيا جيل اليهود الجاحد هلمَّ فانظر الذي أبصره أشعيا مُوافياً بالجسد لأجلنا , كيف يتخذ صهيون الجديدة كعروس عفيفة له , وينبذ الجمع المشجوب , والفتيان العادمو خبرة الشر قد بادروا معاً وهم أطهار , كأنهم الى عرس عادم الفساد والدنس مهللين مادحين. فمعهم لنصرخ مسبحين بتسبيح الملائكة : أوصنا في الأعالي الذي له الرحمة العظمى" هي من نظم الامبراطور ثيوفيلوس .
وللدخول في صلب الاسطورة التي تروي علاقة ولي العهد آنذاك ثيوفيلوس بكاسياني نورد بأنه كان ابن الامبراطور ميخائيل من زوجته الاولى ثقلا والذي بعد وفاتها عام ( 824 ) م اتخذ المتوحدة أفروسيني زوجة ثانية له , مما تسبب في استياء الاكليروس والشعب معاً . أما ثيوفيلوس , الذي كان قد تربى وترعرع في بيئة مسيحية , فلم يكت يتودد نحو زوجة أبيه الامبراطورة أفروسيني المتوحدة سابقاً . هكذا بدأت بوادر الحرب الباردة بين ولي العهد ثيوفيلوس والامبراطورة افروسيني التي كانت تحاول مراراً تبرير موقفه منها , رغم العداء التام بينهما . ولكي تتودد منه وتتقرب اليه , وكان قد بلغ سن الزواج , قررت أن تشرف بنفسها على مبادرة انتقاء عروس له , تجمع في شخصها كلَّ المؤهلات لتكون زوجة الامبراطور في المستقبل . ولهذه الغاية , دعت الى البلاط البزنطي الفخم بنات أشراف القسطنطينية . ومن بين الصبايا كانت واحدة تلفت الأنظار وتجذب انتباه واحترام وتقدير كل الحاضرين , وكانت تلك الصبية الحسناء هي كاسياني التي ظهرت على مسرح أحداث الامبراطورية البزنطية , بهدف الارتقاء الى سدة اىمبراطورة صاحبة العصمة والسيادة . ووفقاً لأصول التقاليد التي كان معمول بها في بلاط القسطنطينية أعطت الامبراطورة أفروسيني ولي العهد ثيوفيلوس تفاحة ذهبية ليقدمها الى من تعجبه من الفتيات اللاتي كنَّ تقفن في صفين متقابلين , وهذا يعني أنَّ التي ستتسلم التفاحة الذهبية من يد ولي العهد ستصبح امرأته وامبراطورة بزنطية القادمة . وكان انتباه ثيوفيلوس منصباً منذ البداية آنذاك نحو كاسياني التي شعر نحوها بشيء غريب يجذبه اليها . فتقدم منها راغباً أن يمتحن معلوماتها ويتفحص شخصيتها وسألها : " أحقاً أنه من المرأة أتت كل السيئات الى العالم ؟ " وللحال بدون تردد أجابته كاسياني بكل جأة وشجاعة : " نعم يا أيها المعظم , لأنه كما يذكر الكتاب المقدس , من المرأة , أي من حواء جاء الفساد الى البشرية .... ولكنه , كما يذكر الكتاب المقدس أيضاً, من المرأة , أي من العذراء مريم , أتى الخلاص للعالم. فان كانت حواء بمعصيتها قد تسببت في وجود الموت , فان العذراء مريم قد وهبت الحياة للعالم بطاعتها وخضوعها لمشيئة الله " . الاَ أنَّ ولي العهد فقد اعتبر هذا الجواب تجاسراً ومساً وطعناً كبيراً به مما جعله يقدم التفاحة الذهبية الى " ثيوذورا " . وللحال ابتعدت كاسياني عن البلاط ونذرت نفسها وحياتها الباقية الى الخدر السماوي , عريس الكنيسة سيدنا يسوع المسيح . وهكذا هجرت كاسياني العالم الدنيوي وأسست ديراً خاصاً أسمته " دير كاسيا " نسبة لاسمها, وانفردت للتزهد ناذرة حياتها لتمجيد وتسبيح العلي القدير بتسابيح وأشعار . وكانت بسكوت صمتها تناجي الاله وفي سكون عزلتها تجد طريق الهداية التي ستقودها وتوصلها اليه .
وفي ديرها , اهتمت كاسياني بكتابة ونظم الشعر الكنسي . وتميزت كتاباتها بالعمق اللاهوتي والمعرفة الواسعة واللغة البليغة والايقاع البديع . وقد تركت لنا العديد والوفير من الطروباريات التي ما نزال نرتلها في كنيستنا بلغتها اليونانية الاصيلة او المنقولة اليها . ومن أهم ما نظمته كان قانون السبت العظيم : " ان الأولاد الذين نجوا من الغرق قد أخفوا تحت الثرى الاله الذي أغرق قديماً في أمواج البحر المارد المضطهد . أما نحن فلنسبح الرب كالفتية , لأنه بالمجد قد تمجد " وكذلك " أيها الصالح , ان حبقوق سبق فشاهد تواضعك الالهي حتى الصليب , فانذهل صارخاً : لقد حسمت عزة الأقوياء بما أنك قادر على كل شيء منذ ظهرت للذين في الجحيم " .
ومن الطروباريات الأخرى لها تلك الابيات الشعرية الرائعة التي تُرَتَّلُ في صلاة المساء الكبرى ليلة الميلاد المجيد " ان أوغسطس لما انفرد بالرئاسة على الأرض , ألغيت كثرة رئاسات البشر . وأنت لما تأنست من النقية أبطلتَ عبادة كثرة الآلهة الوثنية . فالمدن صارت تحت سلطة واحدة عالمية ,الأمم آمنوا بسيادة واحدة الهية . والشعوب اِكتُتِبوا بأمر قيصر . وأما نحن المؤمنين فقد كتبنا باسم لاهوتك يا الهنا المتأنس . فعظيمة هي مراحمك المجد لك " .
كما نظمت كاسياني أيضاً أبيات التسابيح التي ترتل عشية الثلاثاء العظيم التي تسرد حادثة الزانية التي ارتمت على اقدام المسيح قبل صلبه. طروباريات تتميز كلمات أبياتها بعمق التفكير والصور المضادة حيث تظهر فيها بالتوازي الفضيلو والفساد , المحبة والحسد , السمو والدناءة " ان المرأة التي كانت فاجرة فيما سلف , ظهرت بغتة عفيفة ماقتة لأفعال الخطيئة القبيحة ولذات الجسد " و " أيها المخلص اِن الزانية بسطت فوق قدميك شعرها ويهوذا بسط يديه لعابري الناموس" " ان الخاطئة لما كانت تقدم الطيب , كان التلميذ يشارط مخالفي الناموس , أما تلك فكانت تفرح بسكبها الطيب الجزيل الثمن وأما ذاك فأسرع لبيع من لا ثمن له . هذه عرفت السيد وذاك انفصل عن الرب . هذه انعتقت محررة ويهوذا صار للعدو عبداَ" و " يا لشقاوة يهوذا لآنه أبصر الزانية تقبل آثار القدمين . وهو كان يتنكر بغش بقبلة التسليم , تلك حلَّت الضفائر وهذا ارتبط بالغضب وقدم عوض الطيب الشر المنتن , لأن الحسد لا يعرف أن يُكرم الموافق " و " أيها المخلص , ان الزانية بسطت لديك شعرها ويهوذا بسط يديه لعابري الناموس . أما تلك فلتنال صفحاً أما هذا فليأخذ فضة "
وكانت كاسياني قد كتبت مقطوعات شعرية عديدة أخرى , منها ما يدور حول شخصية الرجل والمرأة , وفي السعادة الحقيقية والمعروف والخير والحياة الحقيقية التي على المرء أن يعيشها في هذا الكون ليتحد بالله خالقه ومخلصه الذي ينير له دروب الحياة .
ومن أبدع ما كتبته الشاعرة المتوحدة كاسياني هو الطروبارية التي ترتل عشية الثلاثاء العظيم المعروفة باسمها والمستوحاة من حادثة لقاء الزانية مريم المجدلية بالسيد يسوع المسح قبل صلبه التي وردت في الانجيل ( لوقا : 7 - 36 ) حيث صورت بأبياتها الشعرية تلك المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة واِغترفت مت اللذات ما كان طاب لها , لكنها ندما شعرت بلاهوت المسيح اتخذت رتبة حاملات الطيب وتقدمت منه لتقول له : يا رب , اني امراة خاطئة , تمرغت في وحل الخطايا , لكني عندما شعرت وأحسست بلاهوتك وعظمة الوهيتك لما صنعته من عجائب لبني البشر , لمحتك كشعاع ضوء ينير القلوب ويهب الررحمة والغفران , فأنرتني بنور رحمتك التي لا تحصى , وجعلت مني أنا المرأة الخاطئة للتقدم اليك وأخُرَّ على قدميك الطاهرتين وأسكب عليهما طيباً كثير الثمن وأنشفهما بخصلات شعري الأشقر, باكية ومتنهدة : يا ويلتي ويا لكثرة آثامي وخطاياي , لقد تهت في خضم الشهوات وملأت نفسي برغبات جسدية . لقد اسودت نفسي وأظلمت كليل قاتم لا قمر فيه واحاطها الظلام الحالك من كل حد وصوب حتى لا تتبين بصيرتي ما يدور حولي في الظلمة من فساد .
وها أنا الآن اليك يا ربي أتيتُ واليك يا ربي أتضرع . فاقبل ينابيع دموعي وانسحاق قلبي وتوبة نفسي , يا من يجتذب مياه البحر بالسحب . تعالَ يا الهي الحنون وتحنن عليَّ وانعطف لزفرات قلبي يا من هو سيد الخير والصلاح , أنت يا من أحنيت السموات بتجسدك الذي لا يدرك من البتول مريم . أنت يا من نزلت من السماء من لدن الله الآب وتتأنس وتتألم مصلوباً لتخلص الانسان الساقط وتعيده اليك . وها انا ذا أتضرع اليك يا ربي لتنقذ نفسي من عبودية الخطيئة , وأسألك يا سيدي بأن تسمح لي , بعظمة رحمتك وطول أناتك وعمق محبتك , لأن أخرَّ على قدميك الطاهرتين وأقبلهما وأسكب عليهما الطيب الغالي الثمن الذي أحضرته خصيصاً, تكريماً لك وأنشفهما بخصلات شعري الأشقر وأضمهما الى صدري , أرجلك الالهية الطاهرة هذه , أرجلك يا يسوعي التي لما طنَّ صوت وطئيهما في مسامع حواء في الفردوس , جزعت واستترت خوفاً ......" وعند هذا المشهد المصور بالكلمات تنهي الشاعرة كاسياني سرد ما ورد في انجيل لوقا البشير عن زانية المجدل , لتتابع بعده قصيدتها متضرعة الى الرب يسوع . ولا بد لنا هنا من وقفة عند الشطر " التي لما طنَّ صوت وطئيهما في مسامع حواء في الفردوس , جزعت واستترت خوفاً ... " لقد اعتبر الكثيرون من مؤرخي القرن العاشر أن الشطر المذكور ليس من نظم كاسياني , بل كان لثيوفيلوس الامبراطور . وقد علل هؤلاء في كتابتهم عن هذا القول بأن كاسياني عندما بلغت في قصيدتها الدينية الى عبارة " فأقبل قدميك الطاهرتين وأنشفهما بضفائر شعري ..." بغتة سمعت ضجة صاخبة خارج صومعتها , وعندما طلبت معرفة السبب أبلغوها أن الامبراطور ثيوفيلوس قد وصل يزور الدير , حينئذ ابتعدت واختبأـت في مكان منزوي لئل تلتقي بالامبراطور , ولذا تركت قصيدتها بدون خاتمة .
ويضيف المؤرخون زعمهم بأن الامبراطور حين دخل صومعتها ولاحظ بأن القصيدة التي كانت تقرضها كاسياني لم تكتمل بعد , اكملها هو بالشطر " التي لما طنَّ ... جزعت واستترت خوفاً " . وحين عادت كاسياني لتتابع كتابة القصيدة اندهشت لما هو مكتوب فيها بخط الامبراطور , لذا لم تمح ِ ما كان كتبه , بل تابعت نظم القصيدة حتى خاتمتها .
ان قناعة المصادر تلزمنا على القول بأن ما كان قد لفق في القرن العاشر لا يستند الى الحقيقة بصلة , لأن القصيدة بكامل أبياتها هي من نظم كاسياني وليس لثيوفيلوس أي طرف في كتابتها . وتدور كل معاني القصيدة وصورها التشبيهية حول قدمي السيد التي تترجاه الخاطئة بأن يسمح لها بأن تقبلهما . لقد أرادت كاسياني بهذه العبارة التصويرية لأن تعيد الى الأذهان ما ورد في كتاب التكوين ( 3 : 8 ) " فسمعا صوت الرب الاله وهو متمشي في الجنة عند نسيم النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الاله ... ". ولا يجوز بالتالي لاولئك المؤرخين الخلط أو الالتباس في ذكرهم للحادثة وأن يقارنوا ما بين وقع قدمي الامبراطور ثيوفيلوس في الدير ووقع قدمي الرب الاله في الفردوس .
وقد اختتمت كاسياني مقطوعتها الشعرية الرائعة هذه اذ كتبت تتضرع الى السيد : " فمن يفحص كثرة خطاياي ولجج أحكامك, فيا مخلصي المنقذ نفسي لا تعرض عني أنا عبدتك , يا من له الرحمة التي لا تحصى " .
هذه التضرعات والتوسلات ليست سوى التعبير الصادق لكل نفس بشرية تؤمن بعظمة الله وأبدية الانسان . تلك النفس التي دائماً تتضرع وتترجى , ودائماً كانت تطلب من أعماق أعماقها المصالحة مع الله ونور الخلاص الذي لا يغيب , وبهذا تشعر بالانعتاق من عبودية الموت لتعيش حياة حقيقية أبدية وخالدة في أحضان الخالق المحب البشر .
كما أنه من الخطأ أيضاً وحقاً ما يظنه ويزعمه عدد من النقاد أن كاسياني قد كتبت قصيدتها هذه لتكشف عن ذاتها . فشاعرتنا كانت نموذجاً مثالياً للمرأة الصالحة والعفيفة المليئة بالاحساس والشعور الغني بالمحبة الالهية . وكانت من النساء اللاتي يتحلين بالتربية الحسنة والآداب السامية. لا سيما انها كانت المرأة التي أنكرت ذاتها وجحدت بملاذ الدنيا وعظمتها لتعيش في وحدة وعزلة طوعية , تحيا فيها للمسيح الخدر السماوي ولتكون الرمز الحقيقي لكل امرأة ترى بوابة الحياة مفتوحة أمامها على مصراعيها , أثر وبعد كل تجربة ومحنة أو فشل .
ويتميز شعر كاسياني , بشكل عام بالموهبة الغنية التي تسودها النفحة الالهية , ولهذا في تنتشل القارىء وتنقله من محيط الماديات الى عالم الروحانيات المشع بنور الحياة المسيحية الحقيقية , لأنه حيث الروح تشع بنور الهدى هناك تكون الحياة . وتبين لنا الشاعرة كاسياني في كل بيت من قصائدها الدينية طريق الايمان الذي لم يكن بالنسبة لها سوى عشقها الخدر السماوي للكنيسة يسوع المسيح , والاتحاد السري به , لهذا بالذات عاشت لتكتب وتنظم وتبدع برعايته وهدايته والهامه . ولهذا السبب بالذات حرك شعرها وما زال كل نفس بشرية متألمة تطلب الخلاص والحياة الابدية بالقرب من المعلم الابدي ومبدع الخليقة وسيدها . وستبقى طروبارية الزانية الدافع والحافز الحي في نفوس كل المؤمنين التائبين المرددين مع كاسياني في كل حين : " أما نحن فلنسبح الرب كالفتية لأنه بالمجد قد تمجد " طالما أن من يتحد بالله الخالق المحب للبشر تصبح حياته انشودة عذبة وعيشه محبة وفداء .
أنطوان أسوس في
" عناوين ضائعة " 37 .
حكمة مشبعة بحزن يقترب من العبث
الكتاب : عناوين ضائعة ( شعر )
الكاتب : أنطوان أسوس
الناشر : دار خريستين – أثينا
راجعه : جمال حيدر
في تراكم كثيف وبسيط تنمو قصائد هذه المجموعة الشعرية ضمن طقوس مشبعة بالالفة , منسجمة مع مناخاتها . وتتجلى في غالبية النصوص حالة التداخل بين الفعل اليومي وبين رؤيا شعرية تتصاعد في بساطة عناصر جمالها وشفافيتها المتدفقة , طارحة ذاتها عبر ومضات مكثفة في فضاء حسي مترامي الأطراف .
وعبر تجليات الروح بكل رغباتها وأحلامها يلتحم الخاص بالعام والجزء بالكل في لحظات سياق متدافعة ومقرونة في زمن , غالباً ما يكون مصدراً لحدث قائم , ارتقى به الشاعر الى مستوى نص تتدافع فيه الرؤى .
وتحتل فكرة التقاط الحدث اليومي مركزاً مهماً في نصوص المجموعة , بل تكاد تسيطر على أجوائها , متكئة عباراته على الحاضر المنجز , مستعينة بقدرة القصيدة على المغامرة في مدار الرؤية والحلم .
والوصول الى جزيرة العشق الانساني عبر هذه النصوص التي تفيض بطقوس الحب لا تخلو من الدخول الى سراب داهم , يجمع بين طياته أساطير غامضة ومهاو ٍِ عصيبة . ويمثل الحب العمود الفقري لمعظم قصائده , مخففاً من دهشة الأسئلة التي يحددها الزمن أحياناً .
صخب الشعر
ويتجلى العشق عند الشاعر كحالة تتميز بتنوع مفردات النصوص وحركتها الشعرية . عشق تتجاذبه تداعيات ولهفة وانفعالات نهمة , من الصعوبة أن تضع حداً لاشباعها وارتوائها.
"عناوين ضائعة" مجموعة تقودنا صوب صخب الشعر وشفافيته في آن , مجسدة تجارب الشاعر الحياتية في صيرورة العشق وحضوره الدائم في مساحات حائرة بين اليقين والشك. فالشاعر يضع أطواره الشعرية في محك التجربة اليومية المزدحمة بالأصدقاء والأعياد والفصول والانكسارات, مانحاً اياها لحظة زمنية تختزن تفاصيلها لوعة الحياة وحرقة المشاعر .